01 يناير . 10 دقائق قراءة . 686
فلننظر الآن، باختصار، إلى ماهية عدم الانتماء إلى العالم. ليس المقصود من هذه العبارة، بالطبع، عدم الانتماء الفيزيائي، بل التحرر الداخلي وسياسة السلوك اليومي الحكيمة اللذان يحُولان دون الانقياد إلى اتخاذ مواقف واعتناق قيم ومعتقدات بتأثير من الضغوط، داخلية كانت أو خارجية. في كلا الـيوگا-ڤاسشتها Yoga Vāsishtha والإنجيل، نجد نصيحة العودة أطفالًا صغارًا: "مَن لم يقبل ملكوت الله مثل الطفل لا يدخله" (إنجيل مرقس 10: 15). لماذا؟ لأن الأطفال، عمومًا، سعداء بالفطرة. فحتى الطفل الذي تُساء معاملتُه ينسى الإساءة أحيانًا ويحيا سعيدًا إذا أتيح له المجال لذلك. الأطفال لا يصارعون العالم، ولا ينخرطون في نشاطات دافعها الطموح أو الطمع، ولا في ألاعيب تضخيم الأنا؛ إنهم يكونون أنفسهم وحسب. بالمقابل، فإن جوهر الحداثة يعبَّر عنه لدى الراشد في مواقف واعية أو غير واعية من الصراع والمواجهة. بطبيعة الحال، لا نتوقعنَّ من ملايين الناس على شفير الموت جوعًا ألا ينتفضوا ويصارعوا للبقاء؛ لكن الذين لا تواجههم ظروف بهذه الحدة، مافتئ فيهم شيء يصارع، على مستوى حاذق، طوال الوقت. بذا نجد نزاعًا مع البيئة، مع أفراد الأسرة، في أداء الواجبات المهنية، وبالأخص مع النفس. حتى الذين ينضمون إلى جمعيات خيرية أو تنظيمات أهلية طيبة المقاصد تراهم لا يقدرون على الاستنكاف من الصراع؛ ثم، وقد أعياهم الصراع، يصارعون للتحرر من الصراع! ترانا لا نجرؤ على الهدوء، بل نصر دومًا على إنجاز شيء أو التخطيط لمثل هذا الإنجاز.
فهلا تساءلنا: فيمَ نتصارع؟ ولماذا يأتي الضغط من أعماق نفوسنا؟ أيكون أن الصراع الجسماني الذي ورثناه من ماضينا الحيواني لا يزال فاعلًا في دماغنا؟ لماذا يشعر الناس الذين عندهم ما يكفي من المأكل ويتمتعون بكل ما يحتاجون إليه أنهم "فقراء"؟ أيكون أن الذهن، بطبيعته، لا يستغني عن بلوغ شرط مختلف؟ في المجتمع الحديث، حتى الأطفال يرغمون على التحضر، بعد تخرُّجهم من الجامعة، لاكتساب المزيد من المهارات، لتحقيق مردود أكثر فأكثر، لتحصيل مناصب أعلى فأعلى، مما يؤدي لا محالة إلى الصراع. يقول كريشنامورتي مخاطبًا تلامذة المدارس ومدرسيهم:
التربية حاليًّا – لسوء الحظ – تهدف إلى جعلك تنصاع لهذا المجتمع الاستحواذي، تدخل في قالبه، وتتكيف معه. ذاك كل ما يشغل بال أبويك ومدرسيك وما تنص عليه كتبك. فمادمت تنصاع، مادمت طَموحًا، استحواذيًّا، تفسد الآخرين وتحطمهم في سعيك لتحصيل المكانة والنفوذ، فأنت تُعتبر مواطنًا "محترمًا". إنك تُربى على الدخول في قالب المجتمع؛ لكن ذلك ليس تربية، بل مجرد عملية تُشرطك على الانصياع لنموذج ما. لكن الدور الحقيقي للتربية ليس أن تحولك إلى موظف أو قاض أو رئيس وزراء، بل أن تساعدك على فهم بنيان هذا المجتمع العفن في كلِّيته وتتيح لك فسحة النمو في حرية، بحيث تفلت منه وتخلق مجتمعًا مختلفًا، عالمًا جديدًا.
وفيما بعد، يصارع المرء ليكون محبوبًا؛ وكلما ازدادت حاجة الناس المَرَضية إلى الحب أو الإعجاب أو الامتنان، اشتدت الضغوط في حياتهم. إنهم يستهلكون طاقتهم في الرغبة والطلب، بدلًا من أن يكونوا بأنفسهم محبين ولطيفين وخدومين، فيهدرون حياتهم في الصراع.
حتى من غير أن نضع قائمة مستوفية بهذه الظواهر المَرَضية، حسبنا شيء من النظر الثاقب حتى ندرك أن صراع المرء لإثبات جدارته، للظهور ذكيًّا، للحصول على مزايا وامتيازات، للتقدم السريع، إلخ، – ما يُسمى "الطموح" – إنما هو عادة نفسانية مدمرة. ولكن لماذا نطلب الظهور بمظهر ما ليس منَّا؟ لماذا نبذل هذه الجهود كلَّها أصلًا؟ وهل من الممكن لنا أن نعمل ونحيا، يحدونا الحب وحده إلى عمل ما هو إبداعي وقيِّم، مفيد وخيِّر، من غير ما حاجة إلى الصراع في سبيل ذلك، أي من غير أي طموح؟ يقول كريشنامورتي أيضًا:
ماذا يحدث عندما تكون طَموحًا؟ تفكِّر في نفسك فقط، أليس كذلك؟ تكون عديم الرأفة، تنحِّي غيرك من الناس لأنك تسعى في تحقيق طموحك، تسعى في أن تصير شخصًا مرموقًا، فتوجِد بذلك في المجتمع النزاع بين الناجحين وبين المتخلِّفين عن الركب، فتنشب معركة دائمة بينك وبين الآخرين الساعين هم أيضًا في الحصول على ما تريد. فهل هذا النزاع منتج لحياة مبدعة؟ [...]
هل تكون طَموحًا حين تحب أن تفعل شيئًا من أجل ذاته؟ حين تفعل شيئًا بكيانك كله، لا لأنك تبتغي الوصول إلى منصب ما، ولا لتحقق مزيدًا من الربح، أو نتائج أعظم، بل ببساطة لأنك تحب أن تفعله – في ذلك، لا وجود للطموح، أليس كذلك؟ في ذلك، لا وجود للتنافس: فأنت لا تصارع أحدًا على المركز الأول. ألا ينبغي للتربية أن تساعدك على اكتشاف ما تحب حقًّا أن تفعله، بحيث إنك، من بداية حياتك إلى نهايتها، تعمل على شيء تشعر أنه يستحق العناء وله بنظرك مغزى عميق؟
ما دام الصراع عادة مستحكمة من عادات الأنية ego فإن الناس، حتى حين يتمنون عدم الانتماء إلى العالم ويتشوقون إلى الحياة "الروحية"، يستمرون على عادتهم تلك، فيتحرقون إلى لفت انتباه الـگورو guru (المعلم الروحي) أو نيل بركته، إلى تحقيق الاستنارة أو إيجاد الوسيلة الفضلى للتغلب على عيوبهم، إلخ – وبذا لا يكون المرء في سلام مع نفسه أبدًا. لذا جاء في كتيب نور على الدرب: "لا يخدعنَّك قلبك في سهولة". فما أسهل على المرء أن يكون دنيويًّا فيما يوهم نفسه أنه "روحاني"! بالمقابل، عندما يعي المرء أن الذات الأنانية تقتات بالصراع واستعداء الناس، بالخواطر السلبية، بردود الفعل، بترصد عيوب الآخرين والكيد لهم، إلخ، ينحل التوتر في النفس ويستتب الهدوء في الذهن.
انتهاج حياة صحيحة، السلوك العفوي الصادق كالأطفال، إنما يعني عدم طلب المزيد، عدم الاقتتال، بل البقاء على الهدوء ورباطة الجأش، مهما حصل. لا يعلِّم كلٌّ من الرواقية والطاوية غير ذلك: عدم الاضطراب ataraxia، أي الطمأنينة العميقة، اللافعل wu-wei، أي العمل من غير جهد بالتناغم مع الأرض والسماء. ألا ترشد الـبهگڤدگيتا إلى ذلك عينه حين تنصح للمرء بالعمل "راسخًا في اليوغا" (6: 18)؟ اليوگا ليس مجرد رياضة بدنية أو تمارين تنفسية، بل هو التحقيق التام للتناغم بين الأرض والسماء اللتين نحن جزء لا يتجزأ منهما. حين ينعدم الشعور بالصراع وتحل السكينة في نفوسنا (ما كان الأقدمون يسمونه شما shama)، فتنعكس هذه السكينة على كل ما نفعل أو نفكر فيه، يحصل تغير ملحوظ في علاقاتنا كلها وفي جوهر كياننا نفسه.
هناك أناس لامعون للغاية، ماهرون ومثقفون، يطرحون حلولًا متنوعة لمشكلات العصر الحالي الهائلة والمتفاقمة، لكن الدواء المطروح في الغالب أسوأ من الداء. إن شيوع استعمال الـProzac الشهير وغيره من المركبات الكيميائية المضادة للاكتئاب antidepressants مثال بليغ على ما نقول. لقد كان يُفترض فيها أن تخفف من حدة التوترات في المجتمع وتعين الناس على احتمال ضغوط الحياة، لكنها جلبت عليهم مشكلات جديدة، أهونها الإدمان. ومَن يدري إلامَ سيفضي المزيد من التلاعب بالجينات؟ أترانا أعجز من أن نجد حلولًا للنزاعات المحتدمة في العالم، أو نضع حدًّا لتلويث البيئة، أو نجتث شأفة الفقر الذي لا يحرم الناس من الغذاء وحسب، بل ومن فرص تنمية مستدامة لائقة بإنسانيتهم؟ أليس ذلك لأننا ضحايا الاضطراب القائم على الأنا والتوتر والنزاع، الدنيوي أساسًا، فنُسقط أوهامًا اعتبارًا من ذهن مبلبل، وبالتالي، مظلم؟ لا ريب أن الذهن الهادئ وحده يتصف بالوضوح، لا الذهن المضطرب. أما الذهن النرجسي أو المصاب بجنون العظمة، فهو يثق أشد الثقة بقدراته ومهاراته، فيفترض أن هذه البلبلة يمكن تبديدها في لحظة عجائبية بمجرد أن يتحول إلى موضوع مألوف يركن إليه؛ لكن هذا لا يحصل البتة لأن إدراكه ليس تامًّا ولا صحيحًا.
كيف لنا أن نحصل على هدوء عميق وحس بالتناغم الداخلي، وحدهما يكفلان العمل الحميد؟ قد يبدو الهدوء والعمل متناقضين، لكن هذا ليس صحيحًا. "اللا-عمل في العمل والعمل في اللا-عمل" الذي تتكلم عليه الـبهگڤدگيتا (4: 18) ينبع من ذهن صاف عميق؛ وكل ما عدا ذلك اضطراب وبلبلة ونشاط غير مثمر. لذا من الحيوي للعالم وللأفراد تعلُّم العمل اعتبارًا من حال هدوء، حال صفاء وسكينة، بدلًا من العمل والذهن يصارع. فما لم نتقصَّ هذا الأمر ونتحرر فعلًا من الانجراف الإجباري في تيار الدنيوية، لا يمكن للشقاء أن يتوقف.
لذا لا مناص لنا من التريث قليلًا لندرك كيف نشتغل – لا ماذا نفعل، لا كيف نجد حلولًا للمشكلات، بل كيف تشتغل أذهاننا. لعل مجرد عمل صغير نؤديه والذهن محقق للشرط السليم أنفع بكثير من أشياء كثيرة نؤديها والذهن متمركز على ذاته. ففي المحيط، حين تهب ريح عاتية، تتشكل في البداية مويجات صغيرة؛ لكنْ إذا ما واصلت الريح هبوبها، لا تلبث المويجات أن تتحول إلى أمواج عاتية، قد لا تقوى على مقاومتها أمتن السفن. نحن جميعًا نصارع صراعًا محمومًا، تدفعنا إلى ذلك مطامح وضيعة وحاجات وهمية. وفي المجال النفساني، كما في المحيط، ثمة سيرورة تراكمية، كما نرى ذلك في الحشود الجماهيرية التي يلهبها حتى الهياج خطاب سياسي حماسي، أو ما إنْ يستبد ببعضها خوف حتى تسري عدوى الذعر فيها، فيتفرق الناس متراكضين شَذَرَ مَذَر، وقد يدوس بعضهم على بعض! العالم كله محكوم بهذا القانون: فصراعاتنا الصغيرة تتراكم، فما تلبث أن تتضخم، متحولة إلى صراعات مسلحة وحروب. لذا فإن الحكماء يقولون ما مفاده: "أنت مسؤول عن العالم بأسره". حين لا نحيا في سكينة وسلام فالعاقبة هي الحروب لا محالة، بكل مآسيها.
الحضور الفيزيائي في العالم ليس حائلًا دون تفتُّح الوعي والاستنارة، على أن يتحقق التناغم والسكينة الداخليين. البوذا التاريخي يولد في العالم في أزمنة الانحطاط الروحي، لكنه يظل مع ذلك بوذا (= مستنيرًا). فالبوذا، وإنْ كان في العالم، ليس من العالم أبدًا. إنه حرٌّ لأن وعيه خارج نطاق تأثير تيار كرما karma، بما أنه تجسيد حي للسلام. والكرما لا يتعلق فقط بمجرد العمل المادي، بل يشمل أيضًا نوع الطاقة التي نستودعها هذا العمل. جوهر طاقة البوذا محبة وسلام، بينما الطاقة التي يولدها عوام الناس طاقة أنانية بدرجة أو بأخرى، فتتسبب في العنف على جميع الأصعدة. فحتى يحل السلام على العالم الشقي، يجب أن تخلو نفوسنا من جميع العوامل الهادرة للطاقة: الطموح والصراع والوهم والإحساس بعدم الأمان إلخ، تلك العوامل التي تُترجَم اجتماعيًّا إلى نزاع وفوضى. يقول كريشنامورتي:
حينما يرصد المرء ذلك، يمكن له أن يرى أي هدر للطاقة هو. لذا على المرء أن يستخلص نفسه من هذه الفوضى الاجتماعية، من هذا الفجور الاجتماعي – ما يعني أن على المرء أن يكون وحده. مع أنك قد تعيش في المجتمع، فأنت لم تعد تتقبل بنيته وقيمه – الوحشية، الحسد، الغيرة، روح التنافس – وبالتالي، أنت وحدك، وحين تكون وحدك فأنت ناضج.
حين تتبدد أوهامنا، ننضج ونبلغ أشدنا، فنصير دعاة سلام حقيقيين، وحتى إنْ أبغضنا العالم، نحيا في العالم دون أن نكون منه.
نسأل الآب القدوس، إذ ذاك، أن "يحفظنا من الشرير"...
[5] J. Krishnamurti, Think on These Things, chap. 3.
[6] Ibid., chap. 1.
[7] جاء في الـطاو-تُه-كنگ، 48: "تناقصْ فتناقصْ حتى تكف عن الفعل./ باللافعل ما من شيء إلا ويمكن القيام به".
12 مارس . 1 دقيقة قراءة
22 فبراير . 6 دقائق قراءة
16 نوفمبر . 1 دقيقة قراءة